نذكر فيه ملخص غزوة فتح مكة التي أكرم الله عز وجل بها رسوله ، و أقر عينه بها ، و جعلها علما ظاهراً على إعلاء كلمته و إكمال دينه و الاعتناء بنصرته .
وذلك لما دخلت خزاعة ـ كما قدمنا ـ عام الحديبية في عقد رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و دخلت بنو بكر في عقد قريش و ضربت المدة إلى عشر سنين ، أمن الناس بعضهم بعضاً ، و مضى من المدة سنة ومن الثانية نحو تسعة أشهر ، فلم تكمل حتى غدا نوفل بن معاوية الديلي فيمن أطاعه من بني بكر بن عبد مناة فبيتوا خزاعة على ماء لهم يقال له الوتير ، فاقتتلوا هناك بذحول كانت لبني بكر على خزاعة من أيام الجاهلية ، و أعانت قريش بني بكر على خزاعة بالسلاح ، و ساعدهم بعضهم بنفسه خفية ، و فرت خزاعة إلى الحرم فاتبعهم بنو بكر إليه ، فذكر قوم نوفل نوفلاً بالحرم ، و قالوا : اتق إلهك . فقال لا إله له اليوم ، و الله يا بني بكر إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تدركون فيه ثأركم ؟ قلت : قد أسلم نوفل هذا بعد ذلك ، و عفا الله عنه ، و حديثه مخرج في الصحيحين رضي الله عنه . و قتلوا من خزاعة رجلاً يقال له منبه ، و تحصنت خزاعة في دور مكة ، فدخلوا دار بديل بن ورقاء ، و د ار مولى لهم يقال له : رافع ، فانتفض عهد قريش بذلك .
فخر ج عمرو بن سالم الخزاعي و بديل بن ورقاء الخزاعي [ و قوم من خزاعة ] حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فأعلموه بما كان من قريش و استنصروه عليهم ، فأجابهم صلى الله عليه و سلم و بشرهم بالنصر ، و أنذرهم أن أبا سفيان سيقدم عليهم مؤكداً العقد و أنه سيرده بغير حاجة . فكان ذلك ، و ذلك أن قريشاً ندموا على ما كان منهم ، فبعثوا أبا سفيان ليشد العقد الذي بينهم و بين محمد صلى الله عليه و سلم و يزيد في الأجل ، فخرج ، فلما كان بعسفان لقي بديل بن ورقاء وهو راجع من المدينة ، فكتمه بديل ما كان من رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و ذهب أبو سفيان حتى قدم المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة زوج رسول الله صلى الله عليه و سلم و رضي الله عنها ، فذهب ليقعد على فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم فمنعته ، و قالت : إنك رجل مشرك نجس . فقال : و الله يا بنية لقد أصابك بعدي شر . ثم جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فعرض عليه ما جاء له ، فلم يجبه صلى الله عليه و سلم بكلمة واحدة . ثم ذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه فطلب منه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأبى عليه ، ثم جاء إلى عمر رضي الله عنه فأغلظ له ، و قال : أنا أفعل ذلك ؟ ! و الله لو لم أجد إلا الذر لقاتلتكم به . و جاء علياً رضي الله عنه فلم يفعل ، و طلب من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم و رضي الله عنها أن تأمر ولدها الحسن أن يجير بين الناس ، فقالت : ما بلغ بني ذلك ، وما يجيل أحد على رسول الله صلى الله عليه و سلم . فأشار عليه علي رضي الله عنه أن يقوم هو فيجير بين الناس ، ففعل . و رجع إلى مكة فأعلمهم بما كان منه و منهم ، فقالوا : و الله ما زاد ـ يعنون علياً ـ أن لعب بك 0
ثم شرع رسول الله صلى الله عليه و سلم في الجهاز إلى مكة ، و سأل الله عز وجل أن يعمي على قريش الأخبار ، فاستجاب له ربه تبارك وتعالى ، و لذلك لما كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى أهل مكة يعلمهم فيه بما هم به رسول الله صلى الله عليه و سلم من القدوم على قتالهم و بعث به مع امرأة ، و قد تأول في ذلك مصلحةً تعود عليه رحمه الله ، وقبل ذلك منه رسول الله صلى الله عليه و سلم و صدقه ، لأنه كان من أهل بدر : و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم علياً و الزبير و المقداد رضي الله عنهم ، فردوا تلك المرأة من روضة خاخ ، و أخذوا م نها الكتاب و كان هذا من إعلام الله عز وجل نبيه صلى الله عليه و سلم بذلك و من أعلام نبوته صلى الله عليه و سلم . و خرج صلى الله عليه و سلم لعشر خلون من رمضان في عشرة آلاف مقاتل من المهاجرين و الأنصار و قبائل العرب ،و قد ألفت مزينة و كذا بنو سليم على المشهور رضي الله عنهم جميعهم .
و استخلف صلى الله عليه و سلم على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين .
و لقيه عمه العباس بذي الحليفة ، و قيل : بالجحفة فأسلم . ورجع معه صلى الله عليه و سلم ، وبعث ثقله إلى المدينة .
و لما انتهى صلى الله عليه و سلم إلى نيق العقاب جاءه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، و عبد الله بن أبي أمية أخو أم سلمة مسلمين ، فطردهما ، فشفعت فيهما أم سلمة ، و أبلغته عنهما ما رقته عليهما ، فقبلهما ، فأسلما أتم إسلام رضي الله عنهما ، بعد ما كانا أشد الناس عليه صلى الله عليه و سلم .
و صام صلى الله عليه و سلم حتى بلغ ماء يقال له : الكديد ، بين عسفان و أمج من طريق مكة ، فأفطر بعد العصر على راحته ليراه الناس ، و أرخص للناس في الفطر ، ثم عزم عليهم في ذلك ، فانتهى صلى الله عليه و سلم حتى نزل بمر الظهران فبات به .
و أما قريش ف عمى الله عليها الخبر ، إلا أنهم قد خافوا و توهموا من ذلك ، فلما كانت تلك الليلة خرج ابن حرب ، و بديل بن ورقاء ، و حكيم بن حزام يتجسسون الخبر ، فلما رأوا النيران أنكروها ، فقال بديل : هي نار خزاعة ، فقال أبو سفيان : خزاعة أقل من ذلك .
و ركب العباس بغلة رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلتئذ ، و خرج من الجيش لعله يلقى أحداً ، فلما سمع أصواتهم عرفهم ، فقال : أبا حنظلة ! فعرفه أبو سفيان ، فقال : أبو الفضل ؟ قال نعم . قال ما وراءك ؟ قال ويحك .. هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم في الناس ، و اصباح قريش ! . . قال : فما الحيلة ؟ قال و الله لئن ظفر بك ليقتلنك ، و لكن اركب ورائي و أسلم . فركب وراءه و انطلق به ، فمر في الجيش كلما أتى على قوم يقولون : هذا عم رسول الله صلى الله عليه و سلم على بغلة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، حتى مر بمنزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فلما رآه قال : عدو الله ؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد .
و يركض العباس البغلة ، و يشتد عمر رضي الله عنه في جريه ، وكان بطيئاً ، فسبقه العباس ، فأدخله على رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وجاء عمر في أثره ، فاستأذن ر سول الله صلى الله عليه و سلم في ضرب عنقه ، فأجاره العباس مبادرة ، فتقاول هو وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، فأمره صلى الله عليه و سلم أن يأتيه به غداً ، فلما أصبح أتى به رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فعرض عليه الإسلام فتلكأ قليلاً ، ثم زجره العباس فأسلم ، فقال العباس : يا رسول الله ! إن أبا سفيان يحب الشرف ، فقال صلى الله عليه و سلم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، و من أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن .
قال ابن حزم : هذا نص في أنها فتحت صلحاً لا عنوة .
قلت : هذا أحد أقوال العلماء و هو الجديد من مذهب الشافعي . و استدل على ذلك أيضاً بأنها لم تخمس ولم تقسم . و الذين ذهبوا إلى أنها فتحت عنوة استدلوا بأنهم قد قتلوا من قريش يومئذ عند الخندمة نحواً من عشرين رجلاً ، و استدلوا بهذا اللفظ أيضاً : [ فهو آمن ] و المسألة يطول تحريرها ها هنا . و قد تناظر الشيخان في هذه المسألة ـ أعني تاج الدين الفزاري ، و أبا ز كريا النووي ـ و مسألة قسمة الغنائم .
و الغرض أنه صلى الله عليه و سلم أصبح يومه ذلك سائراً إلى مكة ، و قد أمر صلى الله عليه و سلم العباس أن يوق ف أبا سفيان عند خطم الجبل ، لينظر إلى جنود الإسلام إذا مرت عليه .
و قد جعل صلى الله عليه و سلم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه على المقدمة ، و خالد بن الوليد رضي الله عنه على الميمنة ، و الزبير بن العوام رضي الله عنه على الميسرة ، و رسول الله صلى الله عليه و سلم في القلب ، و كان أعطى الراية سعد بن عبادة رضي الله عنه ، فبلغه أنه قال لأبي سفيان حين مر عليه : يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الحرمة ـ و الحرمة هي الكعبة ـ فلما شكا أبو سفيان ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : بل هذا يوم تعظم فيه الكعبة . فأمر بأخذ الراية من سعد فتعطى علياً ، و قيل : الزبير ، و هو الصحيح . و أمر صلى الله عليه و سلم الزبير أن يدخل من كداء من أعلى مكة ، و أن تنصب رايته بالحجون ، و أمر خالداً أن يدخل من كدى من أسفل مكة ، و أمرهم بقتال من قاتلهم . و كان عكرمة بن أبي جهل ، و صفوان بن أمية ، و سهيل بن عمرو ، قد جمعوا جمعاً بالخندمة ، فمر بهم خالد بن الوليد فقاتلهم ، فقتل من المسلمين ثلاثة و هم : كرز بن جابر من بني محارب بن فهر ، و حبيش بن خالد بن ربيعة بن أصرم الخزاعي ، و سلمة بن الم يلاء الجهني ، رضي الله عنهم . وقتل من المشركين ثلاثة عشر رجلاً ، و فر بقيتهم .
و دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة و هو راكب على ناقته و على رأسه المغفر ، و رأسه يكاد يمس مقدمة الرحل من تواضعه لربه عز و جل . و قد أمن صلى الله عليه و سلم الناس إلا عبد العزى بن خطل ، و عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، و عكرمة بن أبي جهل ، و مقيس بن صبابة ، و الحويرث بن نقيذ ، و قينتين لابن خطل ، و هما فرتنا و صاحبتها ، و سارة مولاة لبني عبد المطلب ، فإنه صلى الله عليه و سلم أهدر دمائهم ،و أمر بقتلهم حيث و جدوا ، حتى و لو كانوا متعلقين بأستار الكعبة فقتل ابن خطل ، و هو متعلق بالأستار ، و مقيس ابن صبابة ، و الحويرث بن نقيذ ، و إحدى القينتين ، وآمن الباقون .
و نزل صلى الله عليه و سلم مكة و اغتسل في بيت أم هانئ و صلى ثماني ركعات يسلم من كل ركعتين ، فقيل إنها صلاة الضحى . وقيل : صلاة الفجر . قال السهيلي : و قد صلاها سعد بن أبي وقاص في إيوان كسرى ، إلا أنه صلى ثماني ركعات بتسليم واحد . و ليس كما قال ، بل يسلم من كل ركعتين كما رواه أبو داود . و خرج صلى الله عليه و سلم إلى البيت فطاف به طواف قدوم ، و لم يسع ، و لم يكن معتمراً .
و دعا بالمفتاح ، فدخل البيت و أمر بإلقاء الصور و محوها منه ، و أذن بلال يومئذ على ظهر الكعبة ، ثم رد
صلى الله عليه و سلم المفتاح إلى عثمان بن طلحة بن أبي طلحة . و أقرهم على السدانة .
و كان الفتح لعشر بقين من رمضان .
و استمر صلى الله عليه و سلم مفطراً بقية الشهر يصلي ركعتين ، و يأمر أهل مكة أن يتموا ، كما رواه النسائي بإسناد حسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه ، و خطب صلى الله عليه و سلم الغد من يوم الفتح فبين حرمة مكة وأنها لم تحل لأحد قبله و لا تحل لأحد بعده ، و قد أحلت له ساعة من نهار ، و هي غير ساعته تلك حرام .
و بعث صلى الله عليه و سلم السرايا إلى من حول مكة من أحياء العرب يدعوهم إلى الإسلام ، و كان في جملة تلك البعوث بعث خالد إلى بني جذيمة الذين قتلهم خالد حين دعاهم إلى الإسلام ، فقالوا : صبأنا ، ولم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا ، فوداهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و تبرأ من صنيع خالد بهم .
و كان أيضاً في تلك البعوث بعث خالد أيضاً إلى العزى ، و كان بيتاً تعظمه قريش و كنانة و جميع مضر ، فدمرها رضي الله عنه من إمام و شجاع . و كان عكرمة بن أبي جهل قد هرب إلى اليمن ، فلحقته امرأته وهي مسلمة و هي أم حكيم بنت الحارث بن هشام ، فردته بأمان رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فأسلم وحسن إسلامه ، و كذا صفوان بن أمية كان قد فر إلى اليمن ، فتبعه صاحبه في الجاهلية عمير بن وهب بأمان رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فرده ، وسيره صلى الله عليه و سلم أربعة أشهر ، فلم تمض حتى أسلم و حسن إسلامه رضي الله عنه